سورة يس - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يس)


        


{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)}
هذه هي النفخة الثالثة، وهي نفخة البعث والنشور للقيام من الأجداث والقبور؛ ولهذا قال: {فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} والنَّسلان هو: المشي السريع، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43].
{قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}؟ يعنون: من قبورهم التي كانوا يعتقدون في الدار الدنيا أنهم لا يبعثون منها، فلما عاينوا ما كذبوه في محشرهم {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}، وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم؛ لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد.
وقال أُبَيّ بن كعب، ومجاهد، والحسن، وقتادة: ينامون نومة قبل البعث.
قال قتادة: وذلك بين النفختين.
فلذلك يقولون: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}، فإذا قالوا ذلك أجابهم المؤمنون- قاله غير واحد من السلف-: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}.
وقال الحسن: إنما يجيبهم بذلك الملائكة.
ولا منافاة إذ الجمع ممكن، والله أعلم.
وقال عبد الرحمن بن زيد: الجميع من قول الكفار: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}.
نقله ابن جرير، واختار الأول، وهو أصح، وذلك كقوله تعالى في الصافات: {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [الصافات: 20، 21]، وقال الله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الروم: 55، 56].
وقوله: {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}، كقوله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13، 14].
وقال تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77]، وقال: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 52].
أي: إنما نأمرهم أمرًا واحدًا، فإذا الجميع محضرون، {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} أي: من عملها، {وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}


{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)}
يخبر تعالى عن أهل الجنة: أنهم يوم القيامة إذا ارتحلوا من العَرَصات فنزلوا في روضات الجنات: أنهم {فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} أي: في شغل عن غيرهم، بما هم فيه من النعيم المقيم، والفوز العظيم.
قال الحسن البصري: وإسماعيل بن أبي خالد: {فِي شُغُلٍ} عما فيه أهل النار من العذاب.
وقال مجاهد: {فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} أي: في نعيم معجبون، أي: به.
وكذا قال قتادة.
وقال ابن عباس: {فَاكِهُونَ} أي فرحون.
قال عبد الله بن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن المُسَيّب، وعِكْرِمَة، والحسن، وقتادة، والأعمش، وسليمان التيمي، والأوزاعي في قوله: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} قالوا: شغلهم افتضاض الأبكار.
وقال ابن عباس- في رواية عنه-: {فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} أي بسماع الأوتار.
وقال أبو حاتم: لعله غلط من المستمع، وإنما هو افتضاض الأبكار.
وقوله: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ} قال مجاهد: وحلائلهم {فِي ظِلالٍ} أي: في ظلال الأشجار {عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ}.
قال ابن عباس، ومجاهد وعكرمة، ومحمد بن كعب، والحسن، وقتادة، والسُّدِّيّ، وخُصَيْف: {الأرَائِكِ} هي السرر تحت الحجال.
قلت: نظيره في الدنيا هذه التخوت تحت البشاخين، والله أعلم.
وقوله: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ} أي: من جميع أنواعها، {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} أي: مهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذ.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف الحمصي، حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار، حدثنا محمد بن مهاجر، عن الضحاك المَعَافري، عن سليمان بن موسى، حدثني كُرَيْب؛ أنه سمع أسامة بن زيد يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا هل مُشَمِّر إلى الجنة؟ فإن الجنة لا خَطر لها هي- ورب الكعبة- نور كلها يتلألأ وريحانة تهتز، وقصر مَشيد، ونهر مُطَّرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد، في دار سلامة، وفاكهة خضرة وحَبْرَة ونعمة، ومحلة عالية بَهيَّة». قالوا: نعم يا رسول الله، نحن المشمرون لها. قال: «قولوا: إن شاء الله». قال القوم: إن شاء الله.
وكذا رواه ابن ماجه في كتاب (الزهد) من سننه، من حديث الوليد بن مسلم، عن محمد بن مُهَاجر، به.
وقوله: {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} قال ابن جريج: قال ابن عباس في قوله: {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فإن الله نفسه سلام على أهل الجنة.
وهذا الذي قاله ابن عباس كقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب: 44]
وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا، وفي إسناده نظر، فإنه قال: حدثنا موسى بن يوسف، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، حدثنا أبو عاصم العَبَّاداني، حدثنا الفضل الرَّقاشيّ، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أهل الجنة في نعيمهم، إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة. فذلك قوله: {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}». قال: «فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم وفي ديارهم».
ورواه ابن ماجه في كتاب (السنة) من سننه، عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، به.
وقال ابن جرير: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، حدثنا حَرْمَلة، عن سليمان بن حُمَيد قال: سمعت محمد بن كعب القُرَظِي يحدّث عن عمر بن عبد العزيز قال: إذا فرغ الله من أهل الجنة والنار، أقبل في ظُلَل من الغمام والملائكة، قال: فيسلم على أهل الجنة، فيردون عليه السلام- قال القرظي: وهذا في كتاب الله {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}- فيقول: سلوني. فيقولون: ماذا نسألك أيْ ربّ؟ قال: بلى سلوني. قالوا: نسألك- أيْ رب- رضاك. قال: رضائي أحلكم دار كرامتي. قالوا: يا رب، فما الذي نسألك، فوعزتك وجلالك وارتفاع مكانك، لو قسمت علينا رزق الثقلين لأطعمناهم ولأسقيناهم ولألبسناهم ولأخدمناهم، لا ينقصنا ذلك شيئًا. قال: إن لديَّ مزيدًا. قال فيفعل ذلك بهم في درجهم، حتى يستوي في مجلسه. قال: ثم تأتيهم التحف من الله، عز وجل، تحملها إليهم الملائكة. ثم ذكر نحوه.
وهذا أثر غريب، أورده ابن جرير من طرق.


{وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)}.
يقول تعالى مخبرًا عمّا يؤول إليه حال الكفار يوم القيامة من أمره لهم أن يمتازوا، بمعنى: يتميزون عن المؤمنين في موقفهم، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} [يونس: 28]، وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم: 14]، {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43] أي: يصيرون صدْعَين فرقتين، {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 22، 23].
وقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}: هذا تقريع من الله للكفرة من بني آدم، الذين أطاعوا الشيطان وهو عدو لهم مبين، وعصوا الرحمن وهو الذي خلقهم ورزقهم؛ ولهذا قال: {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي: قد أمرتكم في دار الدنيا بعصيان الشيطان، وأمرتكم بعبادتي، وهذا هو الصراط المستقيم، فسلكتم غير ذلك واتبعتم الشيطان فيما أمركم به؛ ولهذا قال: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا}، يقال: {جِبِلا} بكسر الجيم، وتشديد اللام. ويقال: {جُبُلا} بضم الجيم والباء، وتخفيف اللام. ومنهم من يسكن الباء. والمراد بذلك الخلق الكثير، قاله مجاهد، والسُّدِّيّ، وقتادة، وسفيان بن عيينة.
وقوله: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}؟ أي: أفما كان لكم عقل في مخالفة ربكم فيما أمركم به من عبادته وحده لا شريك له، وعُدُولُكم إلى اتباع الشيطان؟!
قال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن إسماعيل بن رافع، عمن حدثه عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة أمر الله جهنم فيخرج منها عُنق ساطع مظلم، يقول: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} امتازوا اليوم أيها المجرمون. فيتميز الناس ويجثون، وهي التي يقول الله تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 28]».

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7